المدونة

الضيافة.. حين يصبح التراث أسلوب حياة

عمر غازي

في أحد الأرياف العربية، حيث لا تزال القيم القديمة تحكم العلاقات، كان هناك رجل معروف بكرمه الشديد، لدرجة أن بيته ظل مفتوحًا لعابري السبيل لأكثر من ثلاثين عامًا دون أن يغلق بابه في وجه أحد، لم يكن ذلك استثناءً، بل كان انعكاسًا لإرث متجذر في الثقافة العربية، حيث لم تكن الضيافة مجرد فعل، بل هوية تميز المجتمعات وتحدد ملامحها، هذه العادة التي ورثناها عبر الأجيال لم تكن يومًا مجرد كرم عابر، بل كانت جزءًا من نظام اجتماعي قائم على التقدير والاحترام، حيث كان الكرم هو المقياس الأول لقيمة الرجل، والضيف هو امتحان فوري لمروءته.

تاريخيًا، الضيافة ليست حكرًا على العرب، لكنها كانت وما زالت من أبرز سماتهم الثقافية، حيث أظهرت دراسة أجرتها جامعة أكسفورد عام 2021 أن أكثر من 65% من الثقافات التقليدية حول العالم تعتبر الضيافة عنصرًا أساسيًا في بناء العلاقات الاجتماعية، ولكن في الثقافة العربية، اكتسبت الضيافة بعدًا أعمق، حيث لم تكن فقط إكرامًا للضيف، بل كانت عقدًا غير مكتوب يحدد شكل العلاقة بين الأفراد، في المجتمعات القبلية، لم يكن الكرم مجرد اختيار، بل كان التزامًا اجتماعيًا يعكس مكانة الرجل وقوة قبيلته.

في العصر الحديث، ورغم التحولات الاقتصادية والاجتماعية، لا تزال الضيافة تحتفظ بمكانتها في المجتمعات العربية، لكنها أخذت أشكالًا جديدة تتماشى مع التغيرات الحياتية، حيث أظهرت دراسة صادرة عن جامعة هارفارد عام 2022 أن 78% من السياح الذين زاروا دولًا عربية ذكروا أن الكرم والضيافة كانا من أبرز العوامل التي جعلتهم يشعرون بالانتماء والراحة، وهو ما يفسر كيف تحولت هذه العادة التراثية إلى عنصر جذب سياحي يعكس هوية المجتمعات، ففي دول الخليج، على سبيل المثال، أصبح تقديم القهوة العربية والتمر في الفنادق والمطارات رمزًا ثقافيًا لا يقل أهمية عن أي معلم تاريخي، مما يؤكد أن الضيافة لم تعد مجرد عادة، بل استراتيجية ثقافية تسهم في تعزيز صورة الدول أمام العالم.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن للضيافة أن تبقى كما كانت في الماضي، أم أنها ستتحول إلى مجرد طقوس سطحية مع مرور الزمن؟ الواقع يقول إن التراث، مهما كان عريقًا، لا يبقى ثابتًا، بل يتكيف مع العصر، وهذا ما حدث مع الضيافة، فقد تحولت من مجرد استقبال في المنازل إلى صناعة متكاملة تلعب دورًا اقتصاديًا مهمًا، حيث أظهر تقرير صادر عن منظمة السياحة العالمية عام 2023 أن قطاع الضيافة يمثل أكثر من 10% من إجمالي الناتج المحلي في العديد من الدول التي تعتمد على السياحة، مما يعكس كيف يمكن لعادات تراثية أن تتطور لتصبح قوة اقتصادية دون أن تفقد جوهرها الثقافي.

في النهاية، الضيافة ليست مجرد عادة توارثتها الأجيال، بل هي انعكاس لقيم أعمق تحكم العلاقات بين البشر، قد تتغير أشكالها، لكن جوهرها سيبقى دائمًا مرتبطًا بفكرة أن الكرم ليس مجرد فعل، بل هوية تعكس من نكون وكيف نريد أن يرانا الآخرون.

إقرأ أيضًا الفنادق كمعالم سياحية

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button